ما زلت أتذكر عندما سمعت لأول مرة موسيقى الناي الصينية. شيء ما قد حدث، اللحن، التوقيع والبصمة الغير عادية أعطتني قشعريرة. حتى الآن وبعد سنوات لا تزال بإمكانها أن تجعلني أبكي ثم أهدأ. من منّا لا يملك قصة مشابهة عن إحدى المقطوعات الموسيقية التي تلمسه بشكل ما لتبث به شعور ما لا يدري ما هو تحديدًا!
هناك بعض النظريات المثيرة للاهتمام حول أصل الموسيقى، حيث تمكن البشر في وقت مبكر من البقاء على قيد الحياة من خلال تشكيل مجتمعات متماسكة بإحكام. ويمكن الافتراض أن الموسيقى في القبائل البشرية القديمة انبثقت من الحاجة إلى التواصل الفعال مع الأفراد الآخرين في المجموعة.
فعندما بدأت هذه المجموعات في التوسع أصبحت الحاجة إلى التفاعل مع جمهور أكبر أمراً حتمياً. فكانت الموسيقى مثل اللغات نتيجة لهذا المطلب، وكما اقترح داروين، من الممكن أن تكون الموسيقى وسيلة للتواصل الجنسي، لنقل المشاعر أثناء المغازلة، للتعبير عن الحب والغيرة والانتصار وما إلى ذلك.
“قررت أن أفقد القدرة على الكلام وأعيش في الموسيقى.”(سارتر)
لذا فإن الموسيقى هي امتداد أو تعزيز للميل البشري والتوق إلى الاتصال، فتعمل جنبًا إلى جنب مع رغبتنا لتشكيل مجموعات مع الآخرين من جنسنا. في حين أن الكلمات يمكن أن تنقل المعرفة أو تخزنها بشكل جيد، فإن الوجود الإنساني يتجاوز ما يمكن للكلمات وحدها أن تنقله.
وبما أن التحفيز على الغذاء والجنس مهمان لبقاء الكائن الحي فإن حقيقة ملاحظة نشاط عصبي مماثل في الاستجابات وهو ما يحدث مع الموسيقى تشير إلى أنه يمكن أن يكون هناك ميزة تطورية للقدرة على سماع – أو همهمة -الألحان الموسيقية.
يقول روبرت زاتشر-عالم الأعصاب- إن ظهور الموسيقى ربما حدث مصادفة ولكنها حالما ظهرت أصبحت مهمة للغاية”
إن الدماغ البشري قادر على إمتصاص الموسيقى. فترفعنا إلى آفاق جديدة لنتجاوز الحدود العرقية، الثقافية والجغرافية بسهولة. لذا فلا عجب أن الموسيقى هي اللغة العالمية الحقيقية الوحيدة لكل الأنواع البشرية.
وهو ما يقودنا إلى السؤال الذي يشكل عنوان هذا المقال: لماذا نحب الموسيقى؟
التفسير العلمي بخصوص حب الموسيقى
لم يستطيع تسلسل أو نمط من الأصوات التي ليس لها معنى اقتراحي محدد أن تثير أي نوع من الاستجابة الشعورية؟
دعنا نجيب في إطار علم الأعصاب لنربط إجابتنا بالنتائج التجريبية. إن الاستماع إلى الأنواع المختلفة من الموسيقى ينشط المراكز العاطفية في أدمغتنا. حيث يمكن تفسير الاندفاع الشديد والإثارة العاطفية والشعور بالقشعريرة في حفلات موسيقى الروك إلى إطلاق الكثير من الدوبامين في الدماغ. و يمكن تفسير ذلك من خلال:
نظام الإدراك السمعي
من اللافت للنظر أن كل الأصوات لا تعد أكثر من اهتزازات للجزيئات في الهواء. ولكن ما يحدث لنا حين نسمع تلك الأصوات هو نتاج نظام إدراك متطور يأخذ هذه الاهتزازات ويحولها إلى ما يسميه علماء النفس التمثيلات الداخلية (التصور ، والأفكار ، والذكريات ، والعواطف ، وما إلى ذلك) والتي يمكن أن تكون ذات صلة بذكرياتنا الأخرى، وجزء من العملية له علاقة باستخراج الخصائص الصوتية ذات الصلة من الأصوات وترميزها في نمط محدد.
هناك عدد كبير من الأبحاث يشير إلى أن الخلايا العصبية في القشرة السمعية وخاصة في النصف الأيمن من الدماغ مهمة للتمييز بين تدرجات التردد الدقيقة وخلق الإحساس النفسي.
نظام التنبؤ
إن أحد أهم جوانب الإدراك وأحد الجوانب المهمة للموسيقى هو القدرة على توقع الأحداث المستقبلية بناءً على الخبرة السابقة. وتلك هي القدرة الأساسية للبقاء، لأن الكائن الحي يمكن أن يعد استجابة أكثر فعالية لحدث ما إذا كان من الممكن التنبؤ بهذا الحدث.
يدور الأمر حول حبنا للأنماط، فمن المفترض أننا تطورنا بالتعرف على الأنماط لأنها مهارة أساسية للبقاء على قيد الحياة. مثلا: هل يعني حفيف الأشجار أن حيوانًا خطيرًا على وشك الهجوم؟ هل تعني رائحة الدخان أنني يجب أن أركض لأن النار قد تقترب من موقعي؟
وفي حالة الموسيقى، فهي نمط من الأنماط وبينما نصغي لها نتوقع بإستمرار ما قد يحدث لاحقا من ألحان وإيقاعات.
فنجد علاقة غنية بين أنماط الأصوات. حيث كل نظام موسيقي مثل كل لغة له بنية؛ أي مجموعة من القواعد التي تتبع الأصوات الأخرى.
والدماغ السمعي حساس بشكل رائع لمثل هذه الانتظامات ويمكن أن يتعلم تلك العلاقات بسرعة وكفاءة – حتى في وقت مبكر من الحياة – من خلال التعرض لنماذج من (الألحان والإيقاعات والكلمات والجمل). فهكذا يتعرف الأطفال على أنماط الصوت في بيئاتهم.
ابتكر الباحثون الإجراءات التي تقدم مجموعة من الأصوات التي تتبع القواعد القياسية والمتوقعة ثم تم إدخال عنصر جديد على أساس السياق. وفي هذه الحالة تؤدي انتهاكات التوقعات إلى استجابة دماغية مميزة تنشأ في المناطق السمعية والمناطق الأمامية.
لتكشف النتائج عن أننا عندما نستمع إلى الموسيقى، فإننا نرسم أيضًا توقعات حول ما سيحدث (وإلا لن نتمكن من العثور على التنافر). فإذا كان المرء يفتقر إلى التعرّف الكافي على ثقافة مختلفة فغالباً ما تصبح التنبؤات المناسبة صعبة، وقد تكون موسيقى تلك الثقافة صعبة الفهم. وينطبق المبدأ نفسه على اللغات.
تحفيز نظام المكافأة
حيث شرع الباحثون في استخدام تقنيات لتصوير المتعة الشعورية التي تسببها الموسيقى للأفراد من خلال فكرة دراسة “القشعريرة” وهي الاستجابة الجسدية الممتعة التي يمر بها كثير من الناس أثناء الاستماع إلى الحان موسيقية معينة.
كانت ميزة هذا النهج أن القشعريرة ترافقها تغيرات فيزيولوجية (زيادة معدل ضربات القلب والتنفس وما إلى ذلك)، والتي يمكننا من خلالها استخلاص مؤشر موضوعي لتوقيت وشدة المتعة المتحققة. ولتنفيذ هذه الفكرة طُلب من كل فرد مشارك أن يختار موسيقاه المفضلة، لضمان الحصول على المتعة. وتبين أنه عندما يستمع الشخص لموسيقاه المفضلة فإن إفراز الدوبامين (من النواقل العصبية المسئولة عن الإحساس بالسعادة والإنجاز) يزداد.
ومن المثير للاهتمام أن منظري الموسيقى قد طرحوا شيئاً مماثلاً لسنوات عديدة وهو أن الإثارة العاطفية والمتعة في الموسيقى تنشأ من خلق التوتر ومن ثم قيادة المستمع لتوقع القادم والذي يتأخر في بعض الأحيان في إدراكه، فإن أدركه عمل نظام المكافأة على إعطائه جرعة من الدوبامين كتتويج لإنجازه.
لماذا تتفاعل أجسادنا مع الموسيقى بتلك الطريقة؟
من السهل أن نفهم الجنس والطعام في ضوء نظام المكافأة و اندفاع الدوبامين: مما يجعلنا نطلب المزيد فيساهم في بقائنا. ولكن لم الاهتمام بالموسيقى؟ وما إذا كانت توقعاتنا عنها صحيحة أم لا ولم تفعل الشيء نفسه ويعمل معها نظام المكافأة بنفس الطريقة! فالأمر يبدو كما لو أن حياتنا تعتمد عليها !
يقول عالم الموسيقى ديفيد هورون من جامعة ولاية أوهايو: “ربما مرة واحدة كان إجراء توقعات حول بيئتنا تفسير ما نراه ونسمعه على أساس معلومات جزئية يمكن أن يكون في يوم من الأيام أساسًا لبقائنا.”
في كثير من الأحيان، على سبيل المثال عند عبور الطريق. حين نشرك تلك العواطف مع الأصوات التي نسمعها وصرير السيارة القادم من بعيد أو قريب يبدو الأمر بسيط للغاية، لكن لم يكن لدى أسلافنا ترف التفكير في ما إذا كان ذلك الصرير قد حدث بواسطة قرد أليف أو أسد مفترس، لذا كانت المعالجة الذهنية للصوت سبباً لاندفاع الأدرينالين – وبرد فعل غريزي – يعدنا للخروج من المأزق على أية حال.
إن كل ما ذكرنا ليست سوى إحتمالات تحاول لمس سطح الحقيقة دون إدراكها، فمازالت الموسيقى غامضة حتى الآن ومازلنا نجهل كيف تساهم في تكون المشاعر الأخرى غير المتعة والإثارة والخوف. كيف تحزننا الموسيقى وكيف تحمسنا كيف تجعلنا تائهين وكيف تدلنا على شيء ما.
قال كرليل: “إن الموسيقى ضرب من الكلام غير المنطوق به،وغير المحدود، وهي توصلنا إلى حد اللانهائية، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف بألفاظ منطقية مبلغ تأثير الموسيقى في نفوسنا! فلندعها تبقى لغزًا وذلك خير من حله، فتذهب الموسيقى سدى”
المصادر: VOX / DANA / Live Science / Nature
مقالات ذات صلة: