إن الأفكار عن الموت متضاربة جداً، فالعلم لا يستطيع حتى الآن تفسير فكرة الموت وما بعدها. فلا يمكن أن نختبرها ثم نعود منها لندلي بشهادتنا عنها، أم هل يمكننا ذلك ؟! لعلك سمعت كثيرا عباراتٍ مثل: “رأيت شريط حياتي يمر أمام عيني .. رأيت أنني ذاهب إلى النور.” فعبارات كتلك تتردد كثيراً على مسامعنا دون أن نشعر تجاهها بالغرابة. فمن أين أتت تلك العبارات في المقام الأول؟ إنها أتت من الذين مروا بتجربة ” الاقتراب من الموت”!
فهناك من مروا بتجربة ” الاقتراب من الموت” ممن تعرضوا لحادث ما كاد ينهي حياتهم أو توقفت أجهزتهم الحيوية عن العمل مؤقتاً ثم عادت مجدداً بعد الإنعاش الطبي. ولكن ما هي بالضبط تجربة الاقتراب من الموت؟ هل هي هلاوس؟ تجارب روحية؟ هل هي دليل على الحياة بعد الموت؟ أم أنها ببساطة تغييرات كيميائية في الدماغ والأعضاء الحسية وتحدث في لحظات ما قبل الموت؟
يرى نيتشه أن الموت ما هو إلا عودة أبدية، وأن كل شيء يموت وكل شيء يعود وكل الأشياء حتى نحن أنفسنا كنا أحياءً وأمواتاً مرات لا حصر لها.
ويرى ديكارت أن أنفسنا تبقى بعد مماتنا ويقول: “لا استطيع التفكير في أولئك الذين ماتوا إلا باعتبارهم ينتقلون إلى حياة أكثر سلاماً وعذوبة من حياتنا، و أننا سننضم إليهم يوماً ما حاملين معنا ذكريات الماضي ذلك لأنني أتبين فينا ذاكرة عقلية من المؤكد أنها مستقلة عن الجسم.”
بداية الحديث عن تجارب ما قبل الموت
كانت محاورات أفلاطون هي البداية عام 360 ق.م حيث ذكر في محاوراته حكاية جندي يدعى “إير” عاش تجربة الاقتراب من الموت بعد أن قُتل في إحدى المعارك. ووصف روحه وهي تترك جسده ، وأنها بدأت في السير جنباً إلى جنب مع أرواح أخرى نحو الجنة. وحديثاً صاغ الدكتور “رايموند مودي” مصطلح “تجربة الاقتراب من الموت” لأول مرة في كتابه بعنوان “الحياة بعد الحياة” عام 1975.
لمحة عن تجربة الاقتراب من الموت
تشترك معظم تجارب الاقتراب من الموت في سمات مشتركة، لكنها لا تتبع نمطاً محدداً ومنها ما لا يتبع نمطاً على الإطلاق. و فيما يلي السمات المشتركة التي رواها أشخاص مرّوا بتجارب الاقتراب من الموت:
ضوء ساطع شديد النقاء لكنه غير مؤلم:
في بعض الأحيان يملأ هذا الضوء الغرفة. وفي حالات أخر ، يرى الشخص ضوءًا يشعر أنه يمثل إما السماء أو الله أو المسيح بحسب معتقده الديني.
الشعور بمغادرة الجسد:
حيث يمكنه أن ينظر إلى الأسفل ويرى جسده من أعلى ، وغالباً ما يصف المشهد في غرفة العمليات وشكل الأطباء العاملين معه. وفي بعض الحالات ، تذهب “روح” الشخص خارج الغرفة ، إلى السماء وأحيانًا إلى الفضاء.
الدخول في عالم آخر أو بعد آخر:
اعتمادًا على المعتقدات الدينية للموضوع وطبيعة التجربة، قد يرى هذا العالم مثل الجنة أو في حالات أخرى مثل الجحيم. ويرى كيانات الروحية قد ينظر إليهم كأحبائه المتوفين، الملائكة،القديسين أو الله على حد تعبيرهم.
الدخول في نفق:
العديد من مختبري تجارب الاقتراب من الموت يجدون أنفسهم في نفق مع وجود ضوء في نهايته.
التواصل مع كيانات روحية:
العديد من الأشخاص يتحدثون عن شكل من أشكال التواصل مع كائن روحاني. غالبا ما يتم التعبير عنه كونه “صوت ذكوري قوي” يخبرهم أنه ليس وقتهم وأن يعودوا إلى أجسامهم. ويشعر آخرون بأنهم قد أرغموا على العودة إلى أجسامهم بأمر لا صوت له.
مراجعة الحياة:
تسمى هذه التجربة أيضاً “شريط الحياة البانورامي” حيث يرى حياته كلها “فلاش باك”. ويمكن أن تكون تجربة مفصلة جداً أو قصيرة جداً.

وعلى العكس هناك حالات نادرة يروي الأشخاص حكايات مختلفة عن تلك السابقة:
حيث لا يختبرون مشاعر السلام، ولا يزورون السماء أو يجتمعون بأرواح ملائكية. بدلاً من ذلك، يشعرون بالرعب ويجتمعون بأرواح شيطانية. ويزورون ما يشبه الجحيم ويرون فيه الكثير من النفوس المعذبة.
ومنهم من يحكي عن شكل الجحيم كما وصفه الشاعر دانتي في ملحمته الشهيرة “الكوميديا الإلهية” التي يبدأها قائلََا: “و أفقتُ لأجدَ نفسي وحيداً وسطَ غابةٍ سوداءَ، فماذا أقول؟! يا لها من غابةٍ! لم أرَ من قبلُ شيئاً شبيهاً بظلمتِها، بقسوتِها، بوحشتِها إن مجردُ ذكراها، تصنعُ شكلاً للخوف.”
تفسير ظاهرة الاقتراب من الموت
تنقسم النظريات التي تشرح تجارب الاقتراب من الموت إلى فئتين أساسيتين:
- التفسيرات الخارقة للطبيعة (بما في ذلك التفسيرات الروحية والدينية).
- التفسيرات العلمية (بما في ذلك التفسيرات الطبية والفسيولوجية والنفسية)
بالطبع لا يمكن إثبات هذه التفسيرات أو نفيها. ويستند قبول التفسيرات الخارقة للطبيعة على الخلفية الدينية والثقافية لكل فرد.
التفسيرات الروحية
تقول التفسيرات الروحية أن الشخص الذي يمر بتجربة الاقتراب من الموت هو في الواقع يختبر الأشياء التي تحدث لوعيه الغير مجسَّم. وعندما يكونون بالقرب من الموت، فإن روحهم تترك أجسامهم وتبدأ في إدراك الأشياء التي لا يستطيعون عادة القيام بها. وتمر الروح عبر الحدود بين عالمنا والآخرة، وعادةً ما يتمثل طريق العبور بنفق له نور في نهايته.
وفي هذه الرحلة، تصطدم الروح بالكيانات الروحية الأخرى، وقد تواجه حتى كياناً إلهياً، وتنتهي الرحلة باختيارهم العودة إلى أجسادهم بالأرض. إجمالاً، تعتبر التفسيرات الروحية تجارب الاقتراب من الموت دليلاً على وجود الروح ووجود حياة أخرى بعد الموت كما هو شائع في المعتقدات الدينية على اختلافها. (مقال ذو صلة: التدين والدماغ – أثر الصلاة وأداء الشعائر الدينية على دماغك؟)
التفسيرات العلمية
لا يمكن للعلم أن يفسر في النهاية سبب امتلاك بعض الناس لخبرات قريبة من الموت. لكن هذا لا يعني أن التفسيرات العلمية الحالية غير صحيحة، الأمر أن تجربة الاقتراب من الموت معقدة وغير ذاتية ومشحونة عاطفياً. علاوةً على ذلك، لا يمكن اختبار جوانب تجربة الاقتراب من الموت. فلا يمكننا إجراء اختبار لتحديد ما إذا كان شخص ما قد زار السماء بالفعل والتقى بالله!
ومع ذلك، يقدم العلم بعض التفسيرات تقول بأن العديد من جوانب تجربة الاقتراب من الموت هي تجارب فيزيولوجية ونفسية بطبيعتها. حيث وجد العلماء أن بعض الأدوية يمكن أن تخلق تجارب مشابهة تقريباً مع العديد من تجارب الاقتراب من الموت. حتى أن أغلب مستخدمي تلك الأدوية يعتقدون أنهم يموتون بالفعل أثناء تناول الدواء مثل دواء الكيتامين المستخدم في تخدير الحيوانات في الطب البيطري.

وفي دراسة جديدة أجريت في جامعة إمبريال كوليدج في لندن وُجد أن المخدر المعروف باسم ثنائي ميثيل التريبتامين DMT يمكن أن يستثير الخبرات المتأصلة في الدماغ، التي تتداخل بشدة مع تلك الموصوفة في تجارب الاقتراب من الموت. (مقال ذو صلة: أكثر المواد إدماناً على الأرض وتأثيرها على الدماغ)
إن الآلية وراء بعض هذه التجارب الغريبة – بحسب تفسيرات بعض الأطباء وعليماء الأعصاب – هي في طريقة معالجة أدمغتنا للمعلومات الحسية. حيث أن ما نراه “حقيقة” من حولنا هو فقط مجموع كل المعلومات الحسية التي يتلقاها دماغنا في أي لحظة. فعندما تنظر إلى شاشة الكمبيوتر، يصطدم الضوء من الشاشة بشبكية العين، ويتم إرسال المعلومات إلى المناطق المناسبة من الدماغ لتفسير أنماط الضوء إلى شيء ذي معنى وفي هذه اللحظة تحديداً أياً كان موضعك فإن نظام أكثر تعقيداً من الأعصاب والألياف العضلية يتيح لعقلك معرفة مكان جسمك بالنسبة إلى المساحة المحيطة به.
أغمض عينيك وارفع يدك اليمنى حتى تصل إلى مستوى أعلى رأسك. كيف تعرف أين يدك دون النظر إليها؟ كيف تصل إلى رأسك وتدرك مكانها؟ يتيح لك هذا النظام الحسي معرفة مكان يدك ورأسك وجسدك حتى عندما تكون عينيك مغلقة.
كما أن الصدمة التي تؤثر على المناطق الوظيفية للدماغ، مثل المناطق الحسية الجسدية والقشرة البصرية، يمكن أن تسبب الهلوسة التي يتم تفسيرها على أنها تجارب الاقتراب من الموت.
أيضاً تقول التفسيرات العلمية إن الحس المكاني للجسم عرضة للخلل أثناء تجربة الاقتراب من الموت أيضاً. مرة أخرى، يفسر الدماغ معلومات خاطئة حول مكان الجسم بالنسبة إلى المساحة المحيطة به. والنتيجة هي الإحساس بترك الجسم والانتقال حول الغرفة جنباً إلى جنب مع الآثار الأخرى للصدمة والحرمان من الأكسجين في الدماغ.
قد يكون الإحساس السلمي والهادئ خلال تجربة الاقتراب من الموت بمثابة آلية دفاع عن النفس ناتجة عن زيادة مستويات الاندورفين المنتَج في المخ أثناء الصدمة.
بالطبع، كل تلك المحاولات فقط تخدش سطح التفسيرات المحتملة لتجربة الاقتراب من الموت. حتى أن العلم يواجه صعوبة في فهم الموت. ففي الوقت الذي لا ندرك فيه الحياة نفسها رغم اختبارنا لبعض أحداثها، فكيف ندرك الموت؟! أو نقترب حتى من ادراكه؟ وكما يُقال: “لا يستطيع أحدنا التحديق بشيئين .. الشمس والموت”
مقالات ذو صلة:
المصادر:
- “Grey, Margot. “Return from Death
- “Plato. “The Republic
- “Ring, Kenneth. “Life at Death
- “Ring, Kenneth. “Heading Toward Omega
- “Rogo, D. Scott. “The Return from Silence
- Wired.co.uk
من اروع المقالات و اكثرة تنسيقا استمحيك عذرا في اقتباس من موقع لاني في صدد كتابة مقالات مستفيضه عن هذا الموضوع الشيق
اخوكم فايز الريادي من اليمن
أهلاً أخي فايز،
تستطيع الاقتباس من المقال المنشور على موقعنا بشرط الإشارة إلى ذلك في المقالة الخاصة بك.